• ×
الجمعة 26 أبريل 2024 | 02-10-2024

احترام رأس المال

2
0
2787
 
خطبة يوم الجمعة 24/10/ 1429هـ لأبي عبدالرحمن عبد الله المعيدي غفر الله له ..


الحمد لله ..

عباد الله، إن الله جل وعلا حكيم عليم فيما أمر به، وفيما نهى عنه، وعلى المؤمن حقاً أن يعتقد تحريم ما حرمه الله، ويؤمن بذلك، فكل أمر حرمه الله في كتابه، أو حرمه رسوله في سنته، فالمؤمن حقاً يؤمن بهذا، يحلّ ما أحل الله، ويحرِّم ما حرم الله، ويعتقد أن الدين ما شرعه الله ورسوله.
سأل رجل النبي قائلاً: يا رسول الله، أرأيت إن حرَّمتُ الحرام، وحللت الحلال، أدخل الجنة؟ قال: ((نعم))..
وقد ذم الله من لم يلتزم بتحريم ما حرم الله، قال تعالى: قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـٰغِرُونَ ، فاسمع قوله تعالى: وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ ، فالمؤمن يحرم ما حرم الله ورسوله، ويعتقد ذلك إيماناً ..
أيها المسلم، إن ما حرم الله من المحرمات فليس تحريمه خاصاً بزمن معين، وإنما هذا التحريم باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
فلا يمكن أن تتحوَّل المحرمات إلى طاعات وعبادات، المحرمات محرمات، كما حُرِّمت بالأمس فهي حرام إلى قيام الساعة.
حرم الله نكاح الأمهات والبنات والأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت والعمات والخالات وأمهات النساء وزوجات الآباء والأبناء، أيُمكن للمسلم أن يقول: قد يأتي زمان يباح للمسلم أن ينكح أمه أو بنته أو أخته؟! حاشا لله، فالمحرمات محرماتٌ إلى الأبد، ولا يمكن أن يأتي زمن يتحول الحرام فيه حلالاً، ذاك مخالف لشرع الله، فلن يصلح آخر الأمة إلا ما أصلح أولها.
أيها المسلمون، إن من تلكم المحرمات المعاملات الربوية، فالمعاملات الربوية حرمها الله في كتابه، وحرمها رسوله ، وتحريمها معلوم من دين الإسلام بالضرورة، فالمؤمن يعتقد أن الربا حرام، أن التعامل بالربا حرام، يعتقده إيماناً جازماً، ويبتعد عنه طاعة لله ورسوله، فإن البعد عنه عنوان الإيمان، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرّبَوٰاْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ، فالإيمان الصحيح يحول بين المرء المسلم وبين المعاملات الربوية، الإيمان الصحيح يحول بين المرء المسلم وبين التعامل بالربا؛ لأن الربا محرم في شرع الله، بل حُرمته في الشرائع السابقة، فلم تأت شريعة بحل الربا، ولذا ذم الله اليهود بقوله: وَأَخْذِهِمُ ٱلرّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ ..
أيها المسلم : إن الله حرم الربا في كتابه العزيز، وحرمه رسوله محمد ، فمن اعتقد حله وقد سمع الآيات والأحاديث، من اعتقد حله فإنه مفارق للإسلام، وخارج من ملة الإسلام؛ لكونه مكذباً لله ورسوله، راداً على الله ورسوله ..
أيها المسلمون، ليس الربا عملية اقتصادية؛ ولكنها عملية ظلم وامتصاص للأموال، وأكل لها بالباطل، وقضاء على معنويات الناس، وتحطيم لقيمهم ومعنوياتهم، كم جرت الأموال الروبية والمعاملات المحرمة من ويلات على الناس ؟؟ّّ!! وجعلت كثيراً من الناس يعيش قهراً وكمداً ،بل صرنا اليوم نسمع عن أناس انتحروا بسبب خسارتهم .. وجشع تجار المال .. وهذا هو نظام الرأسمالية التي يحكم العالم اليوم .. فالقاعدة في هذا النظام أن تجمع المال بإي طريق ولو من من دماء الناس .. فهذا النظام .. أقام الحروب ودمر اقتصاد الناس من أجل إثرياء العالم .. وهو يقوم على الفائدة ؟؟!! .. يعطيك المال ثم يضاعفه عليك أضعافا ..
إنها ليست مفاجأة لنا ـ نحن المسلمين ـ أن يترنح اقتصاد يقوم على مبدأ الحرية المطلقة ويتغذى على الربا, ولكنها مفاجأة للعالم المتحضر الذي لا يؤمن بقيم نبيلة في البيع والشراء, كما أنها مفاجأة وإحراج لكل من نحا نحوهم أو دار في فلكهم, أما المسلمون فقد تعلموا منذ أكثر من 14 قرنا أنه لا توجد في السوق حرية مطلقة, وأن الربا كبيرة من الكبائر, وأنه لا يجر إلا الدمار وخراب الديار والويلات, وأنه محق للمال والبركات، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ، بل تعلم ذلك قبلهم اليهود والنصارى في كتبهم المنزلة من السماء كما أشار إليه الخالق سبحانه في قوله: وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ...
إن مبادئ الرأسمالية قائم على احترام رأس المال بغض النظر عن الحلال والحرام ؛ ولهذا جوزوا مثلا للشركات الزراعية أن يتلفوا محاصيلهم وأن يلقوها في المزابل ويدفنوها تحت التراب ليحافظوا على حركة العرض والطلب ولو تضور الفقراء جوعا! بل وضعوا تشريعات تنحني للغني على حساب المسكين، ولأن هذه المبادئ والمثل من وضع البشر وليست من خالق البشر فقد تراجع دعاتها وحماتها اليوم عما كان له صفة القداسة أمس.
ولهذا نجد أن الإسلام قد قيد الحرية التي لا ترعي بالاً للفقير والمسكين, أو تلك التي تحترم الفرد على حساب الكل, فحرم الربا, ومنع من الإقراض بالفائدة؛ لما يؤديان إليه من أثر سلبي وخطير على الفقراء وعلى الاقتصاد العام، وسمح بالدَين ولكن في حدود الحاجة, وبضوابط شرعية تمنع من وقوع أزمات أو حدوث انهيارات تضر بأصحاب الأموال أو تلحق الضرر بالاقتصاد العام.
ولذا أيها المسلم، لا يغرنك ما تقوله المصارف والبنوك بأنهم يقدمون لك سيولة لتقضي حاجتك، إنهم يقدمونها لك ولكنها بالفوائد، ولا تزال فائدة تلو فائدة حتى تكون الفوائد فوائد مركزة، تئنّ تحت وطأتها بعد حين، ترضى بها يوماً ويوماً، ثم تتابع عليك الفوائد حتى تقضي على كل ثرواتك وكل ممتلكاتك.
لا يخدعنك قولهم: إنها فرصٌ سانحة، لا وربّي، إنها شقاء وعناء، إنها ظلم لذلك الإنسان الذي يأتي وينخدع بهذه التسهيلات، ويظنها أمراً يسيراً، ولكن في العواقب يستبين له الضرر، ويستبين له الخطر، ويعلم أنه قد ألحق الأذى بنفسه.
أيها المسلمون : وليس عند المسلم شك أن ما أصاب العالم اليوم وهو ماعرف بالأزمة الاقتصادية - هو بسبب التعاملات الربوية المحرمة .. وانظروا ما هي عاقبة تساهل الناس بالمعاملات المحرمة ..
إن ارتفاع الأسعار .. وغلا المواد .. وقلة البركة في الرواتب .. وقحط الديار كل ذلك بسبب .. أكل الحرام .. إن هذا هي عاقبة الربا والتعامل به سبب لحلول العقوبات والمثلات، سبب لسخط الرب جل وعلا، وسبب لحصول الكساد والإفلاس والعياذ بالله.. يقول الله: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرّبَوٰاْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ، وقال: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرّبَوٰاْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ، وأخبر أن الربا ممحوق البركة: يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرّبَوٰاْ وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَـٰتِ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ..
أيها المسلمون : إن الله حرم الربا لما فيه من البلاء والفساد، قال تعالى: وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ، فسمى الله الربا ظلماً، نعم، إنه ظلم بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إنه ظلم لمن تعامله فتأخذ منه أكثر مما تعطيه، إنه ظلم للإنسانية، ظلم للبشر. وأي ظلم أعظم من ظلم الربا؟! إنه يقسي القلب، إنه يقطع أسباب الخير وفعل الخير، إنه يسبب محق البركة، وذهاب الرزق، يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرّبَوٰاْ ، إنه ينشر الجريمة، ويكثِّر البطالة، ويجعل الأنانية في قلوب العباد، إنه ليس [بيعاً] ولكنه ظلم وعدوان، تتكون طبقة غنية إلى آخر الحدود، وطبقة فقيرة مدقعه، ..
ولهذا نجد أن رسول الله يلعن آكل الربا، ويلعن موكل الربا، ويلعن كاتب الربا، ويلعن الشاهدين على عقود الربا، كل أولئك ملعونون على لسان محمد .
أيها المسلم، إن دعاة الربا والمتعامل بالربا يبررون قبيح أعمالهم وظلمهم وجورهم بأن الربا إنما يحرم في الأمور الاستهلاكية، وأما الأمور الإنتاجية فلا مانع من ذلك، كل هذا من الخطأ، فالربا محرم قليله وكثيره، مع المسلم أو مع غير المسلم، لأنه ظلم واقتطاع مال بغير حق، سواء كان في الأمور الاستهلاكية أو في الأمور الإنتاجية، كل ذلك حرام في شريعة الله ...
يبرِّر المرابون أعمالهم بأن التراضي بين المتعاملين يسوغ تلك المعاملة الخبيثة، فنقول: أيها المسلم، وإن حصل التراضي فذاك معصية لله، ومحادة لأمر الله، فإن الله جل وعلا حرم الربا بين المسلمين ولو تراضى المتعاملان، فإن الربا حرام وليس رضاهما بمحلٍّ ما حرم الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم ...


الخطبة الثانية ..
الحمد الله ...
عباد الله : إن الواجب على المسلم أن يحذر من شبهة يرددها كثير من الناس .. وهي قولهم: إن الربا عمّ شره، وعمّ ضرره، وكثر خطره، فأنا أسير مع الناس في مسارهم، لا يا أخي، أنقذ نفسك من عذاب الله، ولا يغرنك من هلك مع الهالكين، أنقذ نفسك من عذاب الله، واحذر التعامل بالربا، والله جل وعلا إذ حرم الربا فإنه ليس ضرورياً للعباد، فهناك المكاسب الطيبة الحميدة التي فيها الخير الكثير، بما يغني عن الربا لو عقل المسلمون ذلك، لو فكر المسلمون في التعاون فيما بينهم، تعاون رأس المال مع الخبرات، لأدى ذلك إلى منافع وخيرات كثيرة، ولكن الأنانية سيطرت على كثير من النفوس، فأراد مالا في البنك، يُعطى عنه كل سنة نسبة معينة، ويعدّ نفسه أنه من المرتاحين، وأنه من الغانمين، ولا يعلم أنه ممن حقّت عليه لعنة الله ...
عباد الله : إن الواجب على المسلم ، أن يتق الله في نفسه ، ويخلص معاملاته من الربا، ويبتعد عنه بكل صوره ، فإن المسلم اذا ابتعد عنه طاعة لله أغناه الله بما هو خير له منه، وفتح الله عليهه ما هو خير له منه، فاتق الله أيها المسلم، وابتعد عن التعامل بالربا، واحذر كل الحذر الربا، وما يقرب إليه، ذلك علامة الإيمان. ومن وقع في الربا فليعلم أنه حارب الله ورسوله، قال بعض السلف: \"جُرِّب على أكلة الربا أنهم لا يُختم لهم بخير والعياذ بالله\"، أنه لا يختم لهم بخير، وأنهم عند موتهم يظهر من ندمهم وسوء حالهم ما الله به عليم.
فلنتق الله في مكاسبنا، ولنطهِّر أموالنا من الربا، فإن المسلم يجب أن يحاسب نفسه، وأن ينقذها من عذاب الله ..
اسأل الله أن يطهر مكاسبنا من كل خبيث، وأن يحفظنا بالإسلام، ويعيذنا من تلك المعاملات الخبيثة، إنه على كل شيء قدير.

وكتبه : أخوكم عبد الله بن راضي المعيدي الشمري
المدرس بالمعهد العلمي بحائل
وخطيب جامع عمر بن الخطاب بحائل
وطالب درسات عليا فسم الفقه .