*فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْا, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : (كُلُّ شَيءٍ بَقَدَرٍ، حَتَّى العَجْزُ وَالكَيْسُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَهَذَا الحَدِيثُ مُتَضَمِّنٌ لِأصْلٍ عَظِيمٍ مِن أُصُولِ الإيمَانِ السِّتَّةِ، وُهُو الإيمَانُ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، عَامِّهِ وَخَاصِّهِ، سَابِقِهِ وَلَاحِقِهِ.
وَالإيمَانُ بِالقَدَرِ يَكُونُ بِأنْ يَعْتَرِفَ العَبْدُ بِأنَّ عِلْمَ اللهِ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيءٍ، وَأَنَّهُ عَلِمَ أَعْمَالَ العِبَادِ خَيْرَهَا وَشَرَّهَا، وَعَلِمَ جَمِيعَ أُمُورِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَكَتَبَ كُلَّ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى يُنَفِّذُ هَذِهِ الأَقْدَارَ فِي أَوْقَاتِهَا بِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ الشَّامِلَتَانِ لِكُلِّ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ, وَأنَّهُ مَعَ ذَلِكَ وَمَعَ خَلْقِهِ لِلْعِبَادِ وَأَفْعَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ، فَقَدْ أَعْطَاهُمْ قُدْرَةً وَإِرَادَةً تَقَعُ بِهَا أَفْعَالُهُم بِحَسَبِ اخْتِيَارِهِمْ، لَمْ يُجْبِرْهُمْ اللهُ عَلَيْهَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ هُو الذِي خَلَقَ قُدْرَتَهُمْ وَمَشِيئَتَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) فَأفْعَالُ العِبَادِ وَأقْوَالُهُمْ تَقَعُ بِقُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِم اللَّتِينِ خَلَقَهُمَا اللهُ فِي عِبَادِهِ، كَمَا خَلَقَ بَقِيَّةَ قُوَاهُمُ الظَّاهِرَةُ وَالبَاطِنَةُ, وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَسَّرَ كُلًّا لِمَا خُلِقَ لَهُ, فَمَنْ وَجَّهَ وَجْهَهُ وَقَصْدَهُ لِرَبِّهِ: حَبَّبَ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ الإيمَانُ، وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَكَرَّهَ إليهِ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ، وَجَعَلَهُ مِن الرَّاشِدِينَ، فَتَمَّتْ عَلَيهِ نِعَمُ اللهِ مِن كُلِّ وَجْهٍ.
وَمَنْ وَجَّهَ وَجْهَهُ وَقَصْدَهُ لِغَيْرِ اللهِ، لَمْ يُيَسْرِهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الأُمُورِ، بَلْ وَلَّاهُ مَا تَوَلَّى، وَخَذَلَهُ، وَوَكَلَهُ إلَى نَفْسِهِ، فَضَلَّ العَبْدُ وَغَوَى، وَلَيْسَ لَهُ عَلَى رَبِّهِ حُجَّةٌ، فَإنَّ اللهَ أَعْطَاهُ جَمِيعَ الأَسْبَابِ التِي يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الهِدَايَةِ، وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ الضَّلَالَةَ عَلَى الهُدَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
وَهَذَا القَدَرُ مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ يَأتِي عَلَى جَمِيعِ أحْوَالِ العَبْدِ, وَأَفْعَالِهِ, وَصِفَاتِهِ، حَتَّى العَجْزُ وَالكَيْسُ. وَهُمَا الوَصْفَانِ المُتَضَادَّانِ الذِي يَنَالُ العَبْدُ بِالعَجْزِ: الخَيْبَةَ وَالخُسْرَانَ، وَيَنَالُ بِالكَيْسِ السَّعَادَةَ وَالرِّضْوَانَ.
وَالمُرَادُ بِالعَجْزِ هُنَا: العَجْزُ الذِي يُلَامُ عَلِيهِ العَبْدُ، وَهُو عَدَمُ الإرَادَةُ، وُهُو الكَسَلُ، لَا العَجْزُ الذِي هُو عَدَمُ القُدْرَةِ. وَالمُرَادُ بِالكَيْس: الجِدُّ فِي طَاعَةِ الرَّحْمَنِ, وَهَذَا هُو مَعْنَى الحَدِيثِ الآخَرِ (اعْمَلُوا; فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ).
وَالكَيِّسُ وَالعَاجِزُ هُمَا المَذْكُورَانِ فِي قَوْلِهِ : (الكَيِّسُ مَن دَانَ نَفْسَهُ, وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ: مَن أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ الأَمَانِي).
*فَإنَّ المُؤمِنَ بِالقَدَرِ حَقًا هُو الذِي أيْقَنَ أنَّ اللهَ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَمُدَبِّرُهُ، وَأَنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِن صَغِيرٍ, وَلَا كَبِيرٍ, وَلَا حَرَكَةٍ, وَلَا سُكُونٍ, إلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ وَخَلْقِهِ، فَمَا كَتَبَ اللهُ عَلَى الإِنْسَانِ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا لَمْ يُكْتَبْ عَلِيهِ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ.
وَمَنْ كَانَ بِمِثْلِ هَذَا اليَقِينِ فَإنَّهُ وَلَابُدَّ سَيَجْنِي ثَمَرَاتِ الإيْمَانِ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ مِنْ: حُصُولِ الإخْلاصِ, وَالسَّلامَةِ مِن الشَّرْكِ, وَالعُجْبِ, وَالحَسَدِ، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ, وَتَحْصِيلِ الشَّجَاعَةِ وَالإقْدَامِ, وَالكَرَمِ وَالإنْفَاقِ، وَخَوْفِهِ مِن اللهِ, وَالحَذَرِ مِن سُوءِ الخَاتِمَةِ، وَيَنَالُهُ سُكُونُ القَلْبِ وَرَاحَةُ البَالِ والصَّبْرُ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِرَبِّهِ, إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن ثَمَرَاتِ الإيْمَانِ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ.
اترك تعليقاً