الرحم

*فَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِيْ بِمَا يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ, وَيُبَاعِدُنِيْ مِن النَّارِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (لَقَدْ وُفِّقَ) أَوْ قَالَ: (لَقَدْ هُدِيَ, كَيْفَ قُلْتَ؟) فَأَعَادَ الرَّجُلُ, فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا, وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ, وَتُؤْتِى الزَّكَاةَ, وَتَصِلُ ذَا رَحِمَكَ) فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ).
وَصِلَةُ الرَّحِمِ سَبَبٌ لِطُولِ العُمُرِ, وَكَثْرَةِ الرِّزْقِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ, وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ, فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَمَعْنَى: يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ: أَيْ يُوَسَّعُ وَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ. وَمَعْنَى: وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ: أَيْ يُمَدُّ لَهُ فِي عُمُرِهِ, وَيُؤَخَّرُ أَجَلُهُ, وَيُخَلَّدُ ذِكْرُهُ.
وَلَقَدْ بَيِّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَنَّ صَلِةَ الرَّحِمِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِن العِتْقِ, فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مَيْمُونَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي قَالَ: (أَوَ فَعَلْتِ) قَالَتْ: نَعَمْ, قَالَ: (أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ) وَالوَلِيدَةُ هِيَ الأَمَةُ.
مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ: إنَّ البَعْضَ مِنَّا لَا يَصِلُ أَقَارِبَهُ إلَّا إذَا وَصَلُوهُ, وَلَا يُحْسِنُ لَهُمْ إلَّا إذَا أَحْسَنُوا إلَيْهِ, وَهَذَا فِي الحَقِيقَةِ مُكَافَأَةٌ لَهُمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ, وَلَيْسَ بِصِلَةٍ لَهُمْ, إِذْ إنَّ مِن المُرُوءَةِ, وَالفِطَرِ السَّلِيمَةِ, مُكَافَأَةُ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْكَ قَرِيبًا كَانَ أَمْ بَعِيدًا, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (لَيْسَ الوَاصِلُ بِالمُكَافِئ, وَلَكِنَّ الوَاصِلُ الذِي إذَا قُطِعَتْ رَحِمَهُ وَصَلَهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِى قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِى, وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَىَّ, وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَىَّ, فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ, وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالمَلُّ هُوَ: الرَّمَادُ الحَارُّ. وَالظَّهِيرُ هُوَ: المُعِينُ الدَّافِعُ لِأَذَاهُمْ.
وَاحْذَرُوا مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ, فَإنَّهَا سَبَبٌ لِلَعْنَةِ اللهِ وَعِقَابِهِ, قَالَ تَعَالَى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) وَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلرَّحِمِ بِأَنْ يَقْطَعَ مَنْ قَطَعَهَا, فَفِي البُخَارِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ قَالَتْ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ, قَالَ: نَعَمْ, أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ, وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ, قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ, قَالَ: فَهُوَ لَكِ) وَفِي مُسْلِمٍ: (الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِى وَصَلَهُ اللَّهُ, وَمَنْ قَطَعَنِى قَطَعَهُ اللَّهُ) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ) يَعْنِيْ قَاطِعُ رَحِمٍ. وَأَعْظَمُ القَطِيعَةِ مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ قَطِيعَةِ الوَالِدَيْنِ, ثُمَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبُ مِن القَرَابَةِ, وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا, قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ, وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) وَإنَّ عُقُوقَ الوَالِدَيْنِ هُوَ قَطْعُ بِرِّهِمَا, وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا, وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُتْبِعَ قَطْعَ الْبِرِّ وَالْإحْسَانِ, بِالْإسَاءَةِ وَالعُدْوَانِ إلَيْهِمَا سَوَاءً بِطَرِيقٍ مُبَاشِرٍ أَوْ غَيْرِ مُبَاشِرٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: (مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ, قَالَ: (نَعَمْ, يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ, وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ) وَالْمَعْنَى: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ؛ فَيَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَاهُ, وَيُسبُّ أُمَّ الرَّجُلِ؛ فَيَسُبُّ الرَّجُلُ أُمَّهُ, وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَيْلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ تَسَبَّبَ فِي شَيءٍ, جَازَ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيءُ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنِيْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: (لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ, وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا, وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ, وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الأَرْضِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

*فَإنَّ مِن النَّاسِ هَدَاهُمُ اللهُ مَن لَا يَنْظُرُ إلَى وَالِدَيْهِ إلَّا نَظْرَةَ احْتِقَارٍ, وَسُخْرَيَةٍ, وَازْدِرَاٍء, فَتَجِدُهُ يُكْرِمُ امْرَأَتَهُ وَيُهِينُ أُمَّهُ, وَيُقَرِّبُ صَدِيقَهُ وَيُبْعِدُ أَبَاهُ, إنْ جَلَسَ عِنْدَ وَالِدَيْهِ فَكَأَنَّهُ عَلَى جَمْرٍ, فَيَسْتَثْقِلُ الجُلُوسَ وَيَسْتَطِيلُ الزَّمَنَ, اللَّحْظَةُ عِنْدَهُمَا كَالسَّاعَةِ, فَلَا يُخَاطِبُهُمَا إلَّا بِبُطءٍ وَتَثَاقُلٍ, وَلَا يُفْضِي إلَيْهِمَا بِسِرٍّ وَلَا أَمْرٍ مُهُمٍ, قَدْ حَرَمَ نَفْسَهُ لَذَّةَ الْبِرِّ وَعَاقِبَتَهُ الحَمِيدَةِ. وَإنَّ مِن النَّاسِ مَعَاشِرَ المُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يَنْظُرُ إلَى أَقَارِبِهِ نَظْرَةَ قَرِيبٍ لِقَرِيبِهِ, وَلَا يُعَامُلُهُمْ مُعَامَلَةً تَلِيقُ بَمَا لَهُمْ مِنْ حَقِّ القَرَابَةِ, فَتَجِدُهُ يُخَاصِمُ أقْرِبَائَهُ فِي أَقَلِّ الْأُمُورِ, وَيُعَادِيهِمْ لِأَتْفَهِ الْأَسْبَابِ, وَلَا يَقُومُ لَهُمْ بِوَاجِبِ الصِّلَةِ, لَا فِي الكَلَامِ, وَلَا فِي الْفِعَالِ, وَلَا فِي بَذْلِ الْمَالِ, فَقَدْ تَجُدُهُ ثَرِيًّا, وَأَقَارِبُهُ مِنْ ذَوِي الْحاجَةِ, فَلَا يَصِلُهُم بِصِلَةٍ, وَاعْلَمُوا أَنَّ مَنْ يَبْخَلُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ سَيَنْدَمُ يَوْمَ القِيَامَةِ سَوَاءً طَلَبَهُ المُسْتَحِقُّ مِنْهُ, أَوْ اسْتَحْيَا وَسَكَتَ, فَاتَّقُوا اللهَ, وَصِلُوا أَرْحَامَكُم بِالزِّيَارَاتِ, وَالهَدَايَا, وَالنَّفَقَاتِ، وَصِلُوهُم بِالَعَطْفِ وَالْحَنَانِ, وَلِينِ الجَانِبِ, وَبَشَاشَةِ الْوَجْهِ وَالْإكْرَامِ وَالْاحْتِرَامِ, وَكُلِّ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ بِأَنَّهُ مِن الصِّلَةِ, وَاحْذَرُوا مِن قَطِيعَتِهِمْ, وَاسْتَحْضِرُوا دَائِمًا مَا أَعَدَّ اللهُ تَعَالَى لِلْوَاصِلِينَ مِنَ الثَّوَابِ, وَلِلْقَاطِعِينَ مِن العِقَابِ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *