معرفة الله تعالى

*فَإِنَّ مِنْ مَقَامَاتِ الدِّينِ الْعَظِيمَةِ, وَمَنَازِلِهِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ, مَعْرِفَةُ الرَّبِّ الْعَظِيمِ, وَالْخَالِقِ الْجَلِيلِ؛ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى, وَمَا تَعَرَّفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ إِلَى عِبَادِهِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ أَفْضَلُ وَأَوْجَبُ مَا اكْتَسَبَتْهُ الْقُلُوبُ, وَحَصَّلَتْهُ النُّفُوسُ, وَأَدْرَكَتْهُ الْعُقُولُ، قَالَ الْإِمَامُ شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ الْقيِّمِ: فَالسَّيْرُ إِلَى اللهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: شَأْنُهُ عَجَبٌ, وَفَتْحُهُ عَجَبٌ، وَصَاحِبُهُ قَدْ سِيقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِهِ, غَيْرَ تَعِبٍ, وَلَا مَكْدُودٍ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: وَمِنَ الْإِيْمَانِ بِأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ: الْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ, وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ، وَأَنَّهُ الْحَيُّ القَيُّومُ الَّذِي لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، وَأَنَّ لَهُ الْمَشِيئَةَ النَّافِذَةَ وَالْحِكْمَةَ الْبَالِغَةَ، وَأَنَّهُ سِمِيعٌ بَصِيرٌ، رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى، وَأَنَّهُ الْمَلِكُ, الْقُدُّوسُ, السَّلامُ, الْمُؤْمِنُ, الْمُهَيْمِنُ, الْعَزِيزُ, الْجَبَّارُ, الْمُتَكَبِّرُ، فَهُوَ جَلَّ جَلَالُهُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ, وَكَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ يُدَبِّرُ أَمْرَ الْمَمَالِكِ، فَيَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَيَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَيُحْيِيِ وَيُمِيتُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَيُدَاوِلُ الْأَيْامَ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُقَلِّبُ الدُّوَلَ، فَيَذْهَبُ بِدَوْلَةٍ، وَيَأْتِي بِأُخْرَى.
وَأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلًمًا، وَأَحْصَى كُلَّ شَيءٍ عَدَدًا، وَوَسِعَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وَحُكْمًا، وَوَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ؛ فَلَا تَخْتَلِفُ وَلَا تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ؛ بَلْ يَسْمَعُ ضَجِيجَهَا بِاخْتِلَافِ لُغَاتِهَا عَلَى تَنَوُّعِ حَاجَاتِهَا، فَلَا يَشْغَلْهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَأَحَاطَ بَصَرُهُ بِجَمِيعِ الْمَرْئِيَاتِ فَيَرَى النَّمْلَةَ السَّوْدَاءَ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ.
فَالْغَيْبُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ, وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ, لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَلَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ؛ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيءٍ، وَشَمِلَتْ نِعْمَتُهُ كُلَّ حَيٍّ: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فَيَغْفِرُ ذَنْبًا، وَيُفَرِّجُ هَمًا، وَيَكْشِفُ كَرْبًا، وَيَجْبُرُ كَسِيرًا، وَيُغْنِي فَقِيرًا، وَيُعَلِّمُ جَاهِلًا، وَيَهْدِي ضَالًا، وَيُرْشِدُ حَيْرَانًا، وَيُغِيثُ لَهْفَانًا، وَيُشْبِعُ جَائِعًا، وَيَكْسُو عَارِيًا، وَيَشْفِي مَرِيضًا، وَيُعَافِي مُبْتَلًى، وَيَقْبَلُ تَائِبًا، وَيَجْزِي مُحْسِنًا، وَيَنْصُرُ مَظْلُومًا، وَيَقْصِمُ جَبَّارًا، وَيُقِيلُ عَثْرَةً، وَيَسْتُرُ عَوْرَةً، وَيُأَمِّنُ خَائِفًا، وَيَرْفَعُ أقْوَامًا، وَيَضَعُ آخَرِينَ.
يَبْسُطُ يَدَهُ فِي النَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ, وَيَبْسُطُ يَدَهُ فِي اللَّيلِ لِيَتُوبَ مُسِيئُ النَّهَارِ؛ مَلِكُ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِيْ لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، حِجَابُهُ النَّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ, يَمِينُهُ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, مَلِكٌ لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ، وَلَا يَكْبُرُ عَلَيْهِ عَيْبٌ أَنْ يَسْتُرَهُ, وَلَا حَاجَةٌ يُسْأَلُهَا أَنْ يُعْطِيَهَا، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ, وَأَهْلَ أَرْضِهِ, وَإِنْسَهُمْ, وَجِنَّهُمْ, الْأَوَّلُونَ مِنْهُمْ وَالْآخِرُونَ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُوهُ فَأَعْطَى كُلًّا مِنْهُمْ مَا سَأَلَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَوْ أَنَّ أَشْجَارَ الْأَرْضِ كُلَّهَا مِنْ يَوْمِ وُجِدَتْ إِلَى أَنْ تَنْقَضِي الدُّنْيَا أَقْلَامٌ، وَالْبَحْرُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ تُمِدُّهُ بِالْأَحْبَارِ، فَكُتِبَ بِتِلْكَ الْأَقْلَامِ, وَذَلِكَ الْحِبْرُ، لَفَنِيَتِ الْأَقْلَامُ وَنَفِدَ الْمِدَادُ، وَلَمْ تَنْفَدْ كَلِمَاتُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

*فَسُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ الْحَلِيمِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ, الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيءٌ، وَالْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيءٌ, وَالظَّاهِرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيءٌ، وَالْبَاطِنُ الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيءٌ, أَحَقُّ مَنْ ذُكِرَ، وَأَحَقُّ مَنْ عُبِدَ، وَأَحَقُّ مَنْ حُمِدَ، وَأَوْلَى مَنْ شُكِرَ, وَأَنْصَرُ مَنِ ابْتُغِيَ، وَأَرْأَفُ مَنْ مَلَكَ، وَأَجْوَدُ مَنْ سُئِلَ، وَأَوْسَعُ مَنْ أُعْطِىَ، وَأَعْفَى مَنْ قَدَرَ، وَأَعْدَلُ مَنِ انْتَقَمَ.
هُوَ الْمَلِكُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الْفَرْدُ لَا يَهْلَكُ، وَكُلُّ شَئٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لَنْ يُطَاعَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَنْ يُعْصَى إِلَّا بِعِلْمِهِ، يُطَاعُ فَيَشْكُرُ، وَيُعْصَى فَيَغْفِرُ، أَقْرَبُ شَهِيدٍ، وَأَدْنَى حَفِيظٍ، كَتَبَ الْآثَارَ, وَنَسَخَ الْآجَالَ، الْقُلُوبُ لَهُ مُفْضِيَةٌ، وَالسِّرُّ عِنَدَهُ عَلَانِيَةٌ، وَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَ، وَالْأَمْرُ مَا قَضَى، وَالْخَلْقُ خَلْقُهُ، وَالْعَبِيدُ عَبِيدُهُ، وَهُوَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *