الغدر

[SIZE=6]*فَأَخْرَجَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ, قالَ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ, وَهُوَ فِى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: (اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ: مَوْتِى، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوْتَانٌ، تَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ، حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِى الْأَصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً, تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا) وَالْغَايَةُ هِيَ الرَّايَةُ, قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَأَنَّ الْغَدْرَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ.
وَالْغَدْرُ هُوَ: نَقْضُ الْعَهْدِ, وَتَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ. والْغَادِرُ هُوَ: الَّذِي يُوَاعِدُ عَلَى أَمْرٍ, وَلَا يَفِيْ بهِ.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا, فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ, وَالْمَلَائِكَةِ, وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ, لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلًا, وَلَا صَرْفًا) وَمَعْنَى أَخْفَرَ أَيْ نَقَضَ العَهْدَ.
وَفِي الْمُسْنَدِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا إِيْمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ, وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ) وفي المتفقِ عليهِ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا جَمَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْأَوَّلِينَ, وَالْآخِرِينَ, يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ, فِيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ بْنِ فُلَانٍ) وَفِى بَعْضِ طُرُقِ الحَدِيثِ: (يُعْرَفُ بِهِ) أَيْ بِهَذَا اللِّوَاءِ، وَفِى طَرِيقٍ آخَرَ: (يُرْفَعُ لَهُ عِندَ إسْتِهِ) وَفِى طَرِيقٍ آخَرَ: (بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، وَلَا غَادِرَ أَعْظَمَ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: (هَذَا خِطَابٌ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَرَبِ بِنَحْوِ مَا كَانَتْ تَفْعَلُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرفَعُونَ لِلْوْفَاءِ رَايَةً بَيْضَاءَ، وَلِلْغَدْرِ رَايَةً سَوْدَاءَ؛ لِيَلُومُوا الْغَادِرَ وَيَذُمُّوهُ، فَاقْتَضَى الْحَدِيثُ وُقُوعَ مِثْلَ ذَلِكَ لِلْغَادِرِ, لِيَشْتَهِرَ بِصِفَتِهِ في القيامةِ فَيَذُمَّهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ, وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ وَفَاؤُهُ وَبِرُّهُ، فَيَمْدَحُهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ، كَمَا يُرْفَعُ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَاءُ الْحَمْدِ فَيَحْمَدُهُ كُلُّ مَنْ فِي الْمَوْقِفِ) وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا:
أَوَّلًا: غِلَظُ تَحْرِيمِ الْغَدْرِ, خَاصَّةً مِنْ قَائِدِ الْجَيْشِ حِيْنَ يُؤَمِّنُ أَعْدَاءَهُ, ثُمَّ يَغْدِرِ بِهِمْ، لِأَنَّ غَدْرَتَهُ تُنْسَبُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ بَرِيءٌ مِنَ الْغَدْرِ وَأَهْلِهِ, بِخِلافِ غَدْرِ الْأَفْرَادِ، فِهيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهِمْ, فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْكُفارِ عَهْدٌ فَخَافَ قَائِدُ الْمُسْلِمِينَ خِيانَةَ الْكُفَّار, فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْذِرَهُمْ بِأَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَإمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إليهمْ عَلَى سَوَآءٍ إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ).
ثَانِيًا: رَفْعُ الْعَلَمِ خَلْفَ الْغَادِرِ, تَشْهِيرًا لَهُ بِالْغَدْرِ, وَإِخْزَاءً, وَتَفْضِيحًا لَهُ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ.
ثَالِثًا: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ لِكُلِّ غَدْرَةٍ لِوَاءٌ, فَيَكُونُ لِلْغَادِرِ أَلْوَيَةٌ بِعَدَدِ غَدَرَاتِهِ.
رَابِعًا: يَشْمَلُ الْغَدْرُ الْمُتَوَعَّدُ عَلِيْهِ، كُلَّ مَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَى دَمٍ، أَوْ عِرْضٍ، أَوْ سِرٍّ، أَوْ مَالٍ, فَخُنْتَهُ, وَأَخْلَفْتَ ظَنَّهُ فِي أَمَانَتِكَ.

*فَقَالَ الْإمَامُ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْغَدْرُ حَرَامٌ فِي كُلِّ عَهْدٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَغَيْرِهِ, وَلَوْ كَانَ الْمُعَاهَدُ كَافِرًا, وَأَمَّا عُهُودُ الْمُسْلِمِينَ فِيْمَا بَيْنَهُمْ فَالْوَفَاءُ بِهَا أَشَدُّ, وَنَقْضُهَا أَعَظَمُ إِثْمًا, وَمِنْ أَعْظَمِهَا نَقْضُ عَهْدِ الْإِمَامِ عَلَى مَنْ تَابَعَهُ وَرَضِيَ بِهِ, فَفِي الْبُخَارِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَلَا يُزَكِّيهِمْ, وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ – فَذَكَرَ مِنْهُمْ – وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا, فَإِنْ أَعْطَاهُ, وَفَّى لَهُ, وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ, لَمْ يَفِ لَهُ) ويَدْخُلُ فِي الْعُهُودِ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا, وَيَحْرُمُ الْغَدْرُ بِهَا, جَمِيعَ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا تَرَاضَوا عَلَيْهَا: مِنَ الْمُبَايَعَاتِ, وَالْمُنَاكَحَاتِ, وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا, وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا يُعَاهِدُ الْعَبدُ رَبَّهُ عَلَيْهِ مِنْ نَذْرِ طَاعَةٍ, وَنَحْوِهَا.
وَفِيْ أَبِي دَاوُدَ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ, فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ, فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ) وَالْبِطَانَةُ هِيَ ضِدُ الظَّاهِرِ, أَيْ مَا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ, وَلَا يُظْهِرُهُ, مِنَ الْمَكْرِ, وَالْخِدَاعِ.
[/SIZE]

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *