مملكة سبأ

*فَقَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ: سَبَأُ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي أَدَانِي الْيَمَنِ، وَمَسْكَنُهُمْ بَلْدَةٌ يُقَالُ لَهَا مَأْرِبُ, وَمِنْ نِعَمِ اللّهِ وَلُطْفِهِ بِالنَّاسِ عُمُومًا، وَبِالْعَرَبِ خُصُوصًا، أَنَّهُ قَصَّ فِي الْقُرْآنِ, أَخْبَارَ الْمُهْلَكِينَ, وَالْمُعَاقَبِينَ، مِمَّنْ كَانَ يُجَاوِرُ الْعَرَبَ، وَيَتَنَاقَلُ النَّاسُ أَخْبَارَهُمْ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى التَّصْدِيقِ، وَأَقْرَبَ لِلْمَوْعِظَةِ, فَقَالَ: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) وَالْآيَةُ هُنَا: هِيَ مَا أَدَرَّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، وَمَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنَ النِّقَمِ، وَالَّذِي يَقْتَضِي أَنْ يَعْبُدُوا اللّهَ وَيَشْكُرُوهُ, وَكَانَ لِمَمْلَكَةِ سَبَأٍ, وَادٍ عَظِيمٍ، تَأْتِيهِ سُيُولٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانُوا قَدْ بَنَوْا عَلَيْهِ سَدًّا مُحْكَمًا، يَكُونُ مَجْمَعًا لِلْمَاءِ، فَكَانَتِ السُّيُولُ تَأْتِيهِ، فَيَجْتَمِعُ هُنَاكَ مَاءٌ عَظِيمٌ، فَيُفَرِّقُونَهُ عَلَى بَسَاتِينِهِمْ، الَّتِي عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ الْوَادِي وَشِمَالِهِ, وَتُغِلُّ لَهُمْ تَلْكَ الْجَنَّتَانِ الْعَظِيمَتَانِ، مِنَ الثِّمَارِ مَا يَكْفِيهِمْ، وَيَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ الْغِبْطَةُ وَالسُّرُورُ، فَأَمَرَهُمُ اللّهُ بِشُكْرِ نِعَمِهِ الَّتِي أَدَرَّهَا عَلَيْهِمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ:
مِنْهَا: هَاتَانِ الْجَنَّتَانِ اللَّتَانِ غَالِبُ أَقْوَاتِهِمْ مِنْهُمَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ اللّهَ جَعَلَ بَلَدَهُمْ، بَلْدَةً طَيِّبَةً، لِحُسْنِ هَوَائِهَا، وَقِلَّةِ وَخَمِهَا، وَحُصُولِ رَغَدِ الرِّزْقِ فِيهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ اللّهَ تَعَالَى وَعَدَهُمْ – إِنْ شَكَرُوهُ – أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ, وَلِهَذَا قَالَ: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ).
وَمِنْهَا: أَنَّ اللّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ احْتِيَاجَهُمْ فِي تِجَارَتِهِمْ, وَمَكَاسِبِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ اْلمُبَارَكَةِ، قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهَا: قُرَى صَنْعَاءَ بِالْيَمَنِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا الشَّامُ, هَيَّأَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا بِهِ يَتَيَسَّرُ وُصُولُهُمْ إِلَيْهَا، بِغَايَةِ السُّهُولَةِ، مِنَ الْأَمْنِ، وَعَدَمِ الْخَوْفِ، وَتَوَاصُلِ الْقُرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةٌ، بِحَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ, وَلِهَذَا قَالَ: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) أَيْ: سَيْرًا مُقَدَّرًا يَعْرِفُونَهُ، وَيحْكُمُونَ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يَتِيهُونَ عَنْهُ, وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُطْمَئِنِّينَ فِي السَّيْرِ، فِي تِلْكَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، غَيْرَ خَائِفِينَ, فَأَعْرَضُوا عَنِ الْمُنْعِمِ، وَعَنْ عِبَادَتِهِ، وَبَطَرُوا النِّعْمَةَ، وَمَلُّوهَا، حَتَّى إِنَّهُمْ طَلَبُوا وَتَمَنَّوْا: أَنْ تَتَبَاعَدَ أَسْفَارُهُمْ بَيْنَ تِلْكَ الْقُرَى، (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بِكُفْرِهِمْ بِاللّهِ, وَبِنِعْمَتِهِ، فَعَاقَبَهُمْ اللّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، الَّتِي أَطْغَتْهُمْ، فَأَبَادَهَا عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهَا سَيْلَ الْعَرِمِ, أَيْ: السَّيْلَ الْجَارِفَ الشَّدِيدَ، الَّذِي خَرَّبَ سَدَّهُمْ، وَأَتْلَفَ بَسَاتِينَهُمْ، فَتَبَدَّلَتْ تِلْكَ الْجَنَّاتُ ذَاتُ الْحَدَائِقِ الْمُعْجِبَةِ، وَالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَصَارَ بَدَلَهَا أَشْجَارٌ لَا نَفْعَ فِيهَا، وَلِهَذَا قَالَ: (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) وَهَذَا كُلُّهُ شَجَرٌ مَعْرُوفٌ، فَصَارَتْ بِلَادُهُمْ قَاحِلَةً, لَيْسَ فِيهَا إِلَّا شَجَرَ الْبَادِيَةِ, وَهَذَا مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِمْ, فَكَمَا بَدَّلُوا الشُّكْرَ الْحَسَنَ، بِالْكُفْرِ الْقَبِيحِ، بَدَّلُوا تِلْكَ النِّعْمَةَ بِمَا ذُكِرَ، وَلِهَذَا قَالَ: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ) أَيْ: وَهَلْ نُجَازِي جَزَاءَ الْعُقُوبَةِ إِلَّا مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ, وَبَطَرَ النِّعْمَةَ؟.
فَلَمَّا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، تَفَرَّقُوا, وَتَمَزَّقُوا، بَعْدَمَا كَانُوا مُجْتِمِعِينَ، وَجَعَلَهُمْ اللّهُ أَحَادِيثَ يُتَحَدَّثُ بِهِمْ، وَأَسْمَارًا لِلنَّاسِ، فَكُلُّ أَحَدٍ يَتَحَدَّثُ بِمَا جَرَى لَهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَنْتَفِعُ بِالْعِبْرَةِ فِيهِمْ إِلَّا مَنْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) صَبَّارٍ عَلَى الْمَكَارِهِ, وَالشَّدَائِدِ، يَتَحَمَّلُهَا لِوَجْهِ اللّهِ، وَلَا يَتَسَخَطُّهَا, بَلْ يَصْبِرُ عَلَيْهَا, وَشَكُورٍ لِنَعْمَةَ اللّهِ تَعَالَى يَعْتَرِفُ بِهَا، وَيُثْنِي عَلَى مَنْ أَوْلَاهَا، وَيَصْرِفُهَا فِي طَاعَةِ اللهِ, فَهَذَا إِذَا سَمِعَ بِقِصَّتِهِمْ، وَمَا جَرَى مِنْهُمْ, وَعَلَيْهِمْ، عَرَفَ بِذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْعُقُوبَةَ، جَزَاءً لِكُفْرِهِمْ نِعْمَةَ اللّهِ، وَأَنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَهُمْ، فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِهِمْ، وَأَنَّ شُكْرَ اللّهِ تَعَالَى، حَافِظٌ لِلنَّعْمَةِ، دَافِعٌ لِلنِّقْمَةِ، وَأَنَّ رُسُلَ اللّهِ، صَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ حَقٌّ، كَمَا رَأَى أُنْمُوذَجَهُ فِي الدُّنْيَا.

*فَإِنَّ الْغَايَةَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا يَقُصُّ اللهُ عَلَيْنَا أَخْبَارَ الْأُمَمِ هِيَ أَخْذُ الْعِظَةِ, وَالْعِبْرَةِ كَمَا خَتَمَ اللهُ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) وَالصَّبْرُ: هُوَ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ, وَكَفُّهَا عَنْ مَحَارِمِهِ, وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللهِ, وَصَبْرٌ عَنْ مَعْصِيَتِهِ, وَصَبْرٌ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ الْمُؤْلِمَةِ.
وأمَّا الشُّكرُ: فَإِنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَظُنُّهُ الْبَعْضُ كَلَامٌ في اللِّسَانِ, دُونَ اسْتِشْعَارٍ لِمَعْنَاهِ الْعَظِيمِ, الَّذِي تَدُومُ بِهِ النِّعَمُ, وَتَزْدَادُ, وَهُوَ خُضُوعُ الْقَلْبِ, وَاعْتِرَافُهُ بِنِعْمَةِ اللهِ، وَثَنَاءُ اللِّسَانِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ بِطَاعَتِهِ, وَأَنْ لَا يَسْتَعِينَ بِنِعَمِهِ, عَلَى مَعَاصِيهِ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *