العشر الأواخر من رمضان

*فَهَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَدِ اصْفَرَّتْ شَمْسُهُ, وَآذَنَتْ بِالْغُرُوبِ, فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا ثُلْثُهُ الْأَخِيرُ، فَلْنَسْتَدْرِكْ مَا مَضَى مِنْهُ, بِمَا بَقِيَ، وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ مَا تَبَقَّى مِنْ لَيَالٍ هِيَ أَفْضَلُ مِمَّا مَضَى، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ, مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ, فَاغْتَنِمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ بَقِيَّةَ شَهْرِكَ فِيمَا يُقَرِّبُكَ إِلَى رَبِّكَ، مِنْ خِلَالِ قِيَامِكَ بِمَا يَلِي:
الْحِرْصُ عَلَى إِحْيَاءِ هَذِهِ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ بِالصَّلَاةِ, وَذِكْرِ اللهِ, وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ, وَسَائِرِ الْقُرُبَاتِ, وَالطَّاعَاتِ، وَإِيقَاظِ الْأَهْلِ لِيُدْرِكُوا هَذَا الْفَضْلَ الْعَظِيمَ, كَمَا كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفعلُ, قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أَحَبَّ إِلَيَّ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ أَنْ يَتَهَجَّدَ بِاللَّيْلِ, وَيَجْتَهِدَ فِيهِ, وَيُنْهِضَ أَهْلَهُ, وَوَلَدَهُ إِلَى الصَّلَاةِ إِنْ أَطَاقُوا ذَلِكَ.
وَلْيَحْرِصْ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ الْقِيَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ، فَفِي التِّرْمِذِيِّ, قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ, كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ).
وَمِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يُشْرَعُ الْقِيَامُ بِهَا فِي هَذِهِ الْعَشْرِ اللَّيَالِي: الْاجْتِهَادُ فِي تَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ, فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) وَمِقْدَارُهَا بِالسِّنِينَ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَثَلَاثٌ وَثَمَانِونَ سَنَةً, قَالَ النَّخَعِيُّ: الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ, وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا, غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) وَمَعْنَى إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا: أَيْ إِيمَانًا بِاللهِ, وَاحْتِسَابًا لِلْأَجْرِ, وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ, كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) وَهِيَ فِي الْأَوْتَارِ أَقْرَبُ مِنْهَا فِي الْأَشْفَاعِ؛ لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ, مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ, مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) وَهِيَ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ أَقْرَبُ؛ لِمَا فِي مُسْلِمٍ, مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الَأَوَاخِرِ, فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ, أَوْ عَجَزَ فَلَا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي) وَأَقْرَبُ السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ؛ لِمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعَبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيامِهَا, هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.
وَهَذِهِ اللَّيْلَةُ لَا تَخْتَصُّ بِلَيْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَعْوَامِ, بَلْ تَتَنَقَّلُ فِي اللَّيَالِي تَبَعًا لِمَشِيئَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ, عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ, وَالْحِكْمَةُ فِي إِخْفَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؛ لِيَحْصُلَ الْاجْتِهَادُ فِي الْتِمَاسِهَا, بِخِلَافِ مَا لَوْ عُيِّنَتْ لَهَا لَيْلَةٌ, لَاقْتَصَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا, فَفِي الْمُسْنَدِ, عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ, مَا أَدْعُو؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَقُولِينَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ, فَاعْفُ عَنِّي) وَعَلْيِهِ فَيُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ بِهَذَا الدُّعَاءِ طِيلَةَ لَيَالِي الْعَشْرِ, وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ الْأَجْرَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ حَاصِلٌ لِمَنْ عَلِمَ بِهَا, وَمَنْ لَم يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْتَرِطْ الْعِلْمَ بِهَا فِي حُصُولِ هَذَا الْأَجْرِ.

*فَمِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يُشْرَعُ الْقِيَامُ بِهَا فِي هَذِهِ الْعَشْرِ اللَّيَالِي: الْاعْتِكَافُ, وَهُوَ: لُزُومُ الْمَسْجِدِ لِلتَّفَرُّغِ لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى, فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ: لَا أَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا أَنَّ الْاعْتِكَافَ مَسْنُونٌ, وَالْأَفْضَلُ اعْتِكَافُ الْعَشْرِ جَمِيعًا كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ, لَكِنْ لَوِ اعْتَكَفَ يَوْمًا, أَوْ أَقَلَ, أَوْ أَكْثَرَ جَازَ.
وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ: وَلَيْسَ لِوَقْتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ فِي أَصَحِّ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعَلْمِ.
وَيَنْبَغِي لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالذِّكْرِ, وَالْاسْتِغْفَارِ, وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ, وَالصَّلَاةِ, وَالْعِبَادَةِ, وَأَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ, وَيَنْظُرَ فِيمَا قَدَّمَ لِآخِرَتِهِ, وَأَنْ يَجْتَنِبَ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ حَدِيثِ الدُّنْيَا, وَيُقَلِّلَ مِنَ الْخُلْطَةِ بِالْخَلْقِ.
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يُسْتَحَبُ لَهُ مُخَالَطَةُ النَّاسِ, حَتَّى وَلَا لِتَعْلِيمِ عِلْمٍ, وَإِقْرَاءِ قُرْآنٍ, بَلْ الْأَفْضَلُ لَهُ الْانْفِرَادُ بِنَفْسِهِ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ, وَذِكْرِهِ, وَدُعَائِهِ, وَهَذَا الْاعْتِكَافُ هُوَ الْخَلْوَةُ الشَّرْعِيَّةُ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *