مكارم الأخلاق

*فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَائِلَ فَتَحُوا بِلَادًا لَمْ تَتَحَرَّكْ إِلَيْهَا جُيُوشٌ، وَلَمْ تُهْرَاقَ لِأَجْلِ فَتْحِهَا قَطْرَةُ دَمٍ, بِتَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى أَوَّلًا, ثُمَّ بِسَبِبِ تُجَّارٍ صَالِحِينَ حَقَّقُوا بِأَخْلَاقِهِمْ مَا عَجَزَتْ عَنْهُ السُّيُوفُ وَالرِّمَاحُ، وَالْخُلُقُ الْحَسَنُ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ أَجْمَلُ شَيءٍ يَتَحَلَّى بِهِ الْإِنْسَانُ، وَهُوَ أَثْقَلُ شَيءٍ يُوْضَعُ فِي الْمِيزَانِ، وَإِنَّ مَجَالَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ لَوَاسِعٌ، وَشُعَبَهُ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ أَبْرَزِهَا أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ وَاسِعَ الصَّدْرِ، رَحِيمَ الْقَلْبِ، زَكِيَّ النَّفْسِ، قَوِيَّ الْإِرَادَةِ، جَمِيلَ الصَّبْرِ، حَمِيدَ الْمُعَاشَرَةِ، صَدُوقَ اللِّسَانِ، مُخْلِصَ الْجَنَانِ، كَامِلَ الرُّجُولَةِ، كَثِيرَ الْحَيَاءِ، حَسَنَ الرَّجَاءِ باللهِ، سَمْحَ الْمُعَامَلَةِ، حُلْوَ الْمُعَاشَرَةِ، طَلْقَ الْوَجْهِ مُبْتَسِمًا، بَرًّا رَحِيمًا، عَفًّا كَرِيمًا، وَقُورًا حَلِيمًا، هَيِّنًا لَيِّنًا، سَهْلًا قَرِيبًا، لَا فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، لَا سَبَّابًا وَلَا لَعَّانًا، لَا نَمَّامًا وَلَا مُغْتَابًا، لَا حَسُودًا وَلَا حَقُودًا، لَا بَخِيلًا وَلَا كَذُوبًا وَلَا ظَلُومًا، يُحِبُّ فِي اللهِ، وَيُبْغِضُ فِي اللهِ، يَرْضَى لِلهِ, وَيَغْضَبُ لِلهِ، وَلَقَدْ جَمَعَ هَذِهِ الْمَعَانِي بِعِبَارَةٍ مَوْجَزَةٍ؛ الْإِمَامُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ, فَقَالَ: حُسْنُ الْخُلُقِ: طَلَاقَةُ الْوَجْهِ, وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ, وَكَفُّ الْأَذَى.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: مَنْ قَرَأَ فِي سِيَرِ الْعُظَمَاءِ, وَتَصَفَّحَ فِي تَارِيخِ النُّبَلَاءِ، فَلَنْ يَجِدَ أَعْظَمَ مِنْ سِيرَةِ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقَدْ كَانَ أَحْسَنُ النَّاسِ خُلُقًا, قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وَفِي الْمُسْنَدِ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ, قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ (أَيْ أَسْرَعُوا إِلَيْهِ) فَكُنْتُ فِيمَنِ انْجَفَلَ, فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ, عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ, فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (أَفْشُوا السَّلَامَ, وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ, وَصِلُوا الْأَرْحَامَ, وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ, تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ) وَلَمَّا دَخَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَاتِحًا, مُنْتَصِرًا عَلَى قَوْمٍ قَدْ آذَوْهُ, قَالَ لَهُمْ: (مَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟) قَالُوا: خَيْرًا, أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ: (اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ) وَفِي الْمُسْنَدِ, عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كُلُّ هَذَا مَعَ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ هُمُومِ الْأُمَّةِ, وَهُمُومِ الْقِيَادَةِ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى رَتَّبَ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ أُجُورًا عَظِيمَةً، فَفِي أَبِي دَاوُدَ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ) وَفِي الْمُسْنَدِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ, وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فَسَكَتَ الْقَوْمُ, فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا, قَالَ الْقَوْمُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: (أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا) وَفِي التِّرْمِذِي, سُئِلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: (تَقْوَى اللَّهِ, وَحُسْنُ الْخُلُقِ).
أَلَا وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يُلْقِي النَّاسَ فِي النَّارِ، هُوَ تَخَلُّقُهُمْ بِأَخْلَاقِ الْفُجَّارِ، وَإِنْ أَتَوْا بِأَعْمَالٍ عِظَامٍ، مِنْ كَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ، فَفِي الْمُسْنَدِ, أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا, قَالَ: (هِيَ فِي النَّارِ) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا, وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ, وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا, قَالَ: (هِيَ فِي الْجَنَّةِ) وَقَوْلُهُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ: أَيْ بِقِطَعٍ مِنْهُ, إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَدَقَتَهَا قَلِيلَةٌ جِدًّا.
وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُؤْسِفِ حَقًّا أَنَّ الْبَعْضَ مِنَّا زَهِدَ فِي الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْفَاضِلَةِ، وَاعْتَاضَ عَنْهَا بِالسَّيِّئِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ, مُرَبِّيًا عَلَى هَذِهِ الْأَخْلَاقِ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ, بَيْنَمَا فَقَدَ آخَرُونَ مِنَّا الْإِخْلَاصَ وَالنِّيَّةَ الصَّالِحَةَ، فَهُوَ يَبْتَسِمُ لِلْمَصْلَحَةِ، وَيُرَحِّبُ لِلْمَنْفَعَةِ، فَأَخْلَاقُهُ تُوصَفُ بِأَنَّهَا عَالِيَةٌ، لَكِنَّهَا لِمَطَالِبَ دُنْيَوِيَّةٍ فَانِيَةٍ مِنْ حَظْوَةِ مَالٍ أَوْ جَاهٍ، أَوْ ثَنَاءٍ مِنْ بَشَرٍ، فَأَنَّى لَهُ أَنْ يَنَالَ عَلَى ذَلِكَ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ.

*فَعَامِلُوا النَّاسَ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا تُحِبُّونَ أَنْ يُعَامِلُوكُمْ بِهِ؛ فَإِنَّهَا عَلَامَةُ كَمَالِ الْإِيمَانِ، وَأَمَارَةُ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ, وَبِهَا يَنَالُ الْمَرْءُ عَالِي الْجِنَانِ، وَيُزَحْزَحُ عَنْ دَرَكِ النِّيْرَانِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ, وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ, فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ, وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ) ثُمَّ سَلُوا اللهَ تَعَالَى أَحْسَنَ الْأَخْلَاقِ، وَتَعَوَّذُوا بِهِ مِنْ سَيِّئَهَا، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَفْتَحَ صَلَاةَ اللَّيْلِ, قَالَ: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ, إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ, اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ, أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ, ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي, فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا, إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ, وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لَا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ, وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ, لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ, وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ, أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ, تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ, أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ).

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *