الأيمان

*فَإِنَّ الْيَمِينَ فِي الشَّرْعِ أَمْرُهَا عَظِيمٌ, يَرْكَنُ إِلَيْهَا الْقُضَاةُ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ, وَيَتَرَاضَى بِهَا النَّاسُ عِنْدَ الْخُصُومَةِ, وَهِيَ تَوْكِيدُ الشَّيءِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِذِكْرِ اسْمِ اللهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى؛ كَالْعِزَّةِ أَوِ الْقُدْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ, وَلَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى كَائِنًا مَنْ كَانَ؛ كَالْحَلِفِ بِالْأَمَانَةِ, وَالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَفِي الْمُسْنَدِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ وَأَشْرَكَ) وَيُكْرَهُ الْإِكْثَارُ مِنَ الْحَلِفِ فِي تَوَافِهِ الْأَسْبَابِ وَلَوْ كَانَ الْمَرْءُ صَادِقًا, قَالَ تَعَالَى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) وَأَمَّا الْإِكْثَارُ مِنَ الْحَلِفِ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ لِتَأْكِيدِهَا وَدَفْعِ الشَّكِّ عَنْ سَامِعِهَا؛ فَهُوَ مَحْمُودٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ كَمَا كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ.
وَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا قَاصِدًا عَقْدَهَا عَلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ لَا أَمْرٍ مَاضٍ, وَيُمْكِنُ وُقُوعُ هَذَا الْأَمْرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ, ثُمَّ فَعَلَ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ, أَوْ تَرَكَ مَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِهِ, مُخْتَارًا ذَاكِرًا, فَقَدْ حَنَثَ, وَالْحِنْثُ هُوَ: فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ, وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ, وَهِيَ: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ, وَلَا يُجْزِئُ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ, أَوِ اثْنَيْنِ خَمْسَ مَرَّاتٍ, بَلْ لَا يَخْرُجُ الْحَانِثُ مِنْ عُهْدَةِ يَمِينِهِ إِلَّا بِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ, أَوْ كِسْوَتُهُمْ, وَتُقَدَّرُ الْكُسْوَةُ بِمَا يُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ؛ وَهُوَ ثَوْبٌ لِلرَّجُلِ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ, وَلِلْمَرْأَةِ ثَوْبٌ وَغِطَاءٌ لِلرَّأَسِ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهَا, أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ, فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ, صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ.
وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ خِلَافَ يَمِينِهِ نَاسِيًا فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةٌ, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).
وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّهُ إِنْ تَعَدَّدَتِ الْأَيْمَانُ قَبْلَ الْحِنْثِ, وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ, كَلَوْ أُمِرَ: أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا فَحَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ, فَكُرِّرَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ, فَحَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ, وَهَكَذَا, فَأَيْمَانُهُ مُتَعَدِّدَةٌ, وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ, فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ وَاحِدَةً, وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُتَعَدِّدًا, كَلَوْ قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى صَاحِبِكَ قَدْ دَعَاكَ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ, وَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ, وَهَنِّئْهُ بِالزَّوَاجِ, فَقَالَ: وَاللهِ لَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ, وَلَا أُهَنِّئُهُ بِالزَّوَاجِ, وَلَا أَكُلُ مِنْ طَعَامِهِ, فَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءٍ, وَالْيَمِينُ وَاحِدَةٌ, فَهَذَا أَيْضًا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَأَمَّا إِنْ تَعَدَّدَتِ الْأَيْمَانُ, وَتَعَدَّدَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ, كَأَنْ يَقُولَ: وَاللهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا, وَوَاللهِ لَا أَدْخُلُ الْبَيْتَ, وَوَاللهِ لَا أَذْهَبُ إِلَى السُّوقِ, فَحَنَثَ فِي كُلِّ هَذِهِ الثَّلَاثِ؛ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ يَمِينٍ مِنْ كَفَّارَةٍ.
وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ ثُمَّ حَنَثَ, ثُمَّ حَلَفَ ثُمَّ حَنَثَ, وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ؛ كَأَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا؛ فَفَعَلَهُ, ثُمَّ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ؛ فَفَعَلَهُ, وَلَمْ يُكَفِّرْ عَنْ حِنْثِهِ؛ فَعَلَيْهِ كَفَّارَاتٌ بِعَدَدِ الْمَرَّاتِ الَّتِي حَنَثَ فِيهَا.
وَأَمَّا مَا جَرَىَ عَلَى اللِّسَانِ مِنَ الْأَيْمَانِ بَلَا قَصْدٍ مِنَ الْحَالِفِ وَلَا نِيَّةٍ؛ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاللهِ, وَبَلَى وَاللهِ؛ فَهُوَ لَغْوٌ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ, وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شَيءٍ جَازِمًا بِصَحَّةِ مَا قَالَهُ, فَظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ؛ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ, وَمَنْ حَلَفَ فَقَالَ بِلِسَانِهِ عَقِبَ يَمِينِهِ: إِنْ شَاءَ اللهُ, فَقَدِ اسْتَثْنَى؛ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ, وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ, وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ, فَفِي أَبِي دَاوُدَ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَلَفَ فَاسْتَثْنَى, فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ, وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ غَيْرَ حِنْثٍ).

*فَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّهُ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مُبَاحًا؛ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ, وَأَتَى مَا أُبِيحَ لَهُ, وَمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ بِرًّا, وَلَا صِلَةً, وَلَا إِصْلَاحًا بَيْنَ النَّاسِ, حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّلَ بِيَمِينِهِ, وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ, وَيْفَعَلَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ؛ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا, فَلْيَأْتِهَا, وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ).
وَمَنْ عَقَدَ يَمِينًا وَهُوَ فِيهَا كَاذِبٌ؛ لِإِضَاعَةِ حَقِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ, وَأَكْلِ مَالِهِ بِالْبَاطِلِ, فَقَدْ حَلَفَ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ فِي النَّارِ, فَفِي الصَّحِيحَيْنِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ, وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ, لَقِيَ اللَّهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ).

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *