الجار

*فَشَيَّدَ رَجُلٌ دَارًا كَبِيرَةً, وَجَمَّلَهَا وَحَسَّنَهَا، وَبَعْدَ مُدَّةٍ؛ تَعَكَّرَتْ حَيَاتُهُ فِي تِلْكَ الدَّارِ، فَعَافَ حُسْنَهَا، وَكَرِهَ سُكْنَاهَا، وَتَمَنَّى الْخَلَاصَ مِنْهَا، فَلَمَّا عَرَضَهَا لِلْبَيْعِ بِأَرْخَصِ الْأَثْمَانِ، وَتَمَّتِ الْبَيْعَةُ، لِيمَ فِي بَيْعِهَا فَأَجَابَ:
يَلُومُونَنِي أَنْ بِعْتُ بِالرُّخْصِ مَنْزِلِي * وَمَا عَلِمُوا جَارًا هُنَــــاكَ يُنَغِّصُ
فَقُلْتُ لَــــــــهُمْ: كُفُّـوا الْمَلَامَ فَإِنَّهَــــــا * بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَــــــــارُ وَتَرْخُصُ
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَقَدْ جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْجَارِ حَقًّا عَظِيمًا, وَحَثَّ عِبَادَهُ عَلَيْهِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) وَالْجِوَارُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى السَّكَنِ، بَلْ يَشْمَلُ الْجَارَ فِي الْمَتْجَرِ، وَالسُّوقِ، وَالْمَزْرَعَةِ، وَالْمَكْتَبِ, وَيَشْمَلُ كَذَلِكَ الْجِوَارَ بَيْنَ الْمُدُنِ، وَالدُّوَلِ, وَسَوَاءً كَانَ الْجَارُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، بَرًّا أَوْ فَاجِرًا، صَدِيقًا أَوْ عَدُوًّا، قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا، فَيَجِبُ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ, وَلِلْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ مَرَاتِبُ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ بِحَسَبِ قُرْبِهِ وَقَرَابَتِهِ، وَدِينِهِ وَتَقْوَاهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ جِمَاعَ حُقُوقِ الْجَارِ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ, هُمَا: الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ، وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُ.
وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْجَارِ يَكُونُ بِبَذْلِ جَمِيعِ الْمَنَافِعِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَتْ إِلَى جَارِكَ, فَفِي الصَّحِيحَيْنِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ) وَفِي رِوَايَةٍ: (فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ) وَكُلَّمَا زَادَ الْإِحْسَانُ: عَظُمَ الثَّوَابُ وَالْأَجْرُ.
وَلِلْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ صُوَرٌ مِنْهَا: الْإِهْدَاءُ إلِيَهِمْ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ الْمَحَبَّةَ، وَيَنْزِعُ الضَّغَائِنَ، وَيُزِيلُ الْأَحْقَادَ, فَفِي الصَّحِيحَيْنِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَحْقِرَنَّ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ مَعْرُوفًا لِجَارَتِهَا, وَلَوْ كَانَ فِرْسِنَ شَاةٍ) وَهُوَ قِطْعَةُ اللَّحْمِ بَيْنَ ظُفْرَيْ عُرْقُوبِ الشَّاةِ.
وَمِنْ صُوَرِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ: نُصْحُهُ إِنْ قَصَّرَ, وَتَوْجِيهُهُ إِنْ أَخْطَأَ، وَحَثُّهُ عَلَى الصَّلَاةِ إِنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا بِرِفْقٍ.
وَمِنْ صُوَرِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ: اتِّبَاعُ جِنَازَتِهِ, وَالتَّرَحُّمُ عَلَيْهِ، وَالصَّفْحُ عَنْهُ، وَمُواسَاةُ أَهْلِهِ, وَتَلَمُّسُ حَاجَةَ وَلَدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَمِمَّا يَجْدُرُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ الْحِرْصُ عَلَى تَرْبِيَةِ أَبْنَائِنَا عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِ الْجِيرَانِ, وَالْوَفَاءِ بِهَا، وَالْبُعْدِ عَنْ أَذِيَّتِهِمْ، طَلَبًا لِثَوَابِ اللهِ تَعَالَى, وَخَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي الْجَامِعُ لِحُقُوقِ الْجَارِ: أَنْ يَحْرِصَ الْمُسْلِمُ عَلَى أَنْ لَا يَصِلَ إِلَى جَارِهِ مِنْهُ أَيُّ أَذًى قَوْلِيٍّ أَوْ فِعْلِيٍّ، فَفِي الْبُخَارِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ) قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) أَيْ شَرَّهُ, وَفِي الْمُسْنَدِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ, أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بيت جَارِهِ) وَلِلتَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْجِيرَانِ صُوَرٌ مِنْهَا: مُضَايَقَةُ الْجَارِ, وَمُطَالَعَةُ عَوْرَاتِهِ، وَتَتَبُّعُ عَثَرَاتِهِ، وَنَشْرُ زَلَّاتِهِ, وَإِيَذَاؤُهُ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ، وَبِرَائِحَةِ الزِّبَالَاتِ وَالْمَجَارِي، وَبِالْإِسَاءَةِ إِلَى جُدْرَانِهِ بِالرُّسُومَاتِ وَالْكِتَابَاتِ.
وَمِنْ صُوَرِ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْجِيرَانِ كَذَلِكَ: قِلَّةُ الْحِرْصِ عَلَى التَّعَرُّفِ عَلَيْهِمْ، وَعَدَمُ التَّفَقُّدِ لِأَحْوَالِهِمْ؛ وَتَرْكُ الْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ الْغَرِيبِ نَسَبًا أَوْ بَلَدًا.
وَمِنْ صُوَرِ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْجِيرَانِ كَذَلِكَ: تَأْجِيرُ مَنْ لَا يَرْغَبُ الْجِيرَانُ فِي إِسْكَانِهِ.

*فَأَخْرَجَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ, فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ, أَنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّ فُلَانَةً تَقُومُ اللَّيْلَ, وَتَصُومُ النَّهَارَ, وَتَفْعَلُ, وَتَصَّدَّقُ, وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا خَيْرَ فِيهَا, هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) قَالُوا: وَفُلَانَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ, وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ (أَيْ بِشَيءٍ قَلِيلٍ) وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ).

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *