*فَلَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْمَالًا سَبْعَة ً يَجْرِي ثَوَابُهَا عَلَى الْإِنْسَانِ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، حِينَ يَكُونُ النَّاسُ فِي الْأَجْدَاثِ مُرْتَهَنِينَ, وَعَنْ التَّزَوُّدِ مِنْ صَالِحِ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مُنْقَطِعِينَ, فَمَا أَحْرَانَا بِالْاجْتِهَادِ حَتَّى يَكُونَ لَنَا نَصِيبٌ مِنْهَا, لِنَتَزَوَّدَ مِن الصَّالِحَاتِ فِي حَيَاتِنَا وَبَعْدَ مَمَاتِنَا, فَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنَّ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهْرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ) وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْوَابًا مِنَ الْخَيْرِ سَبْعَةً؛ لِيَتَمَسَّكَ الْمُؤْمِنُ الْمُوَفَّقُ وَلَوْ بِطَرَفٍ مِنْهَا, فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ لَهُ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْأَعْمَالِ السَّبْعَةِ نَصِيبٌ:
أَوَّلًا: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا؛ أَيْ عِلْمًا نَافِعًا مُحْتَسِبًا فِي ذَلِكَ الْأَجْرَ, وَأَعْظَمُ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ هُوَ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ, وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُنِيرُ الطَّرِيقَ فِي الدُّنْيَا, وَتَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَمْنِ احْتَسَبَ الْأَجْرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَسَاهَمَ فِي طِبَاعَةِ الْكُتُبِ أَوْ نَشْرِ الْمَوَادِّ النَّافِعَةِ, فَلَهُ أَجْرُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ, وَالدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ.
ثَانِيًا: أَوْ كَرَى نَهْرًا؛ أَيْ شَقَّ جَدْوَلًا لِلْمَاءِ مِنَ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ لِكَيْ يَصِلَ إِلَى أَمَاكِنِ النَّاسِ وَمَزَارِعِهِمْ، وَفِي هَذَا الْعَمَلِ الْجَلِيلِ تَنْفِيسٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ, وَقَضَاءٌ لِحَوَائِجِهِمْ.
ثَالِثًا: أَوْ حَفَرَ بِئْرًا؛ لِيَشْرَبَ مِنْهَا النَّاسُ, وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: (فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطِبَةٍ أَجْرٌ) وَيُلْحَقُ بِحَفْرِ الْآبَارِ وَضْعُ الْبَرَّادَاتِ فِي الطُّرُقِ لِيَشْرَبَ مِنْهَا الْمَارَّةُ.
رَابِعًا: أَوْ غَرَسَ نَخْلًا؛ وَمِثْلُ النَّخْلِ غَرْسُ كُلِّ مَا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ، وَإِنَّمَا خُصَّ النَّخْلُ هُنَا بِالذِّكْرِ لِفَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَشْجَارِ.
خَامِسًا: أَوْ بَنَى مَسْجِدًا, لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ هِيَ دُورُ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ, وَفِي بِنَائِهَا مِنَ الْمَصَالِحِ الشَّيءُ الْعَظِيمُ, وَفِي الصَّحِيحَيْنِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ).
سَادِسًا: أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا, وَذَلِكَ يَكُونُ بِشِرَائِهِ وَجَعْلِهِ فِي الْبَيْتِ, فَكُلَّمَا قَرَأَ فِيهِ قَارٍ, نَالَ مُوَرِّثُ هَذَا الْمُصْحَفِ مِثْلَ أَجْرِهِ, وَيَدْخُلُ فِي تَوْرِيثِ الْمُصْحَفِ الْمُشَارَكَةُ بِطِبَاعَةِ الْمَصَاحِفِ أَوْ شِرَائِهَا وَتَوْقِيفِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَدَوْرِ الْعِلْمِ حَتَّى تَتِمَّ الْاسْتِفَادَةُ مِنْهَا.
سَابِعًا: أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ, وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْحِرْصِ عَلَى تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ تَرْبِيَةً صَالِحَةً حَتَى يَذْكُرُوا آبَائَهُمْ وَيَسْتَغْفِرُوا لَهُمْ, وَيَدْعُوا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ وَبَعَدْ مَمَاتِهِمْ؛ لِكَيْ يَتَزَوَّدُوا مِنَ الصَّالِحَاتِ فِي الدُّنْيَا وَبَعَدَ الْمَمَاتِ.
*فَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، أَلَا إِنَّ الْبَعِيدَ مَا لَيْسَ بِآتٍ، لَا يَعْجَلُ اللَّهُ لِعَجَلَةِ أَحَدٍ, وَلَا يَخِفُّ لِأَمْرِ النَّاسِ، مَا شَاءَ اللَّهُ, لَا مَا شَاءَ النَّاسُ، يُرِيدُ اللَّهُ أَمْرًا, وَيُرِيدُ النَّاسُ أَمْرًا, مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ, وَلَوْ كَرِهَ النَّاسُ، لَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدَ اللَّهُ, وَلَا مُبَعِّدَ لِمَا قَرَّبَ اللَّهُ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ, إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ, هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ, مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ, وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
اترك تعليقاً