التحذير من البدع

*فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ, أَنَّ الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ, قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً, ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ, وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ, فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ, وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا, فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا, فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ, تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ, وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ, فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ, وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الدِّينَ وَرَضِيَهُ وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ, فَمَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ حَقَّ الْاسْتِمْسَاكِ، فَقَدْ ظَفَرَ بِخَيْرِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, قَالَ تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) وَقَالَ تَعَالَى: (وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ: سَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا، الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللهِ, وَاسْتِعْمَالٌ لِطَاعَةِ اللهِ, وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا، وَلَا النَّظَرُ فِي رَأْيِ مَنْ خَالَفَهَا، مَنِ اقْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدٍ، وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّاهُ اللهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَقَدْ رَسَمَ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ لِلْعِبَادَاتِ سُنَنًا خَاصَّةً عَلَى وُجُوهٍ خَاصَّةٍ زَمَانًا وَمَكَانًا، وَهَيْئَةً وَعَدَدًا، وأَخْبَرَ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ فِيهَا، وَالشَّرَّ كُلَّ الشَّرِ فِي تَجَاوُزِهَا وَتَعَدِّيهَا, وَأَيُّمَا شَخْصٍ تَجَاوَزَ الشَّرْعَ, وَعَبَدَ اللهَ تَعَالَى بِالْاسْتِحْسَانَاتِ الْعَقْلِيَّةِ؛ فَقَدِ اسْتَدْرَكَ عَلَى الشَّرِيعَةِ نَقَائِصَ, وَقَدَحَ فِي كَمَالِ هَذَا الدِّينِ، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: سَمِعْتُ مَالِكًا رَحِمَهُ اللهُ, يَقُولُ: مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً؛ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى, يَقُولُ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا؛ فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا.
وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلشَّرْعِ الْمُطَهَّرِ فِي عِبَادَتِهِ, فَإِنَّهُ سَيَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ وَلَا بُدَّ, قَالَ تَعَالَى: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ الْقِيَامَ الْحَقَّ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ فِيهِ نَوْعُ مَشَقَّةٍ عَلَى النَّفْسِ؛ وَمُخَالَفَةٌ لِلْهَوَى، وَالنَّفْسُ إِنَّمَا تَنْشَطُ بِمَا يُوَافِقُ هَوَاهَا, وَمِنْ هُنَا فَإِنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ مِنْ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ نَشَاطٌ وَاجْتِهَادٌ فِي الْعَمَلِ يَلْفِتُ النَّظَرَ، وَمَا هَذَا النَّشَاطُ الَّذِي يَشْعُرُ بِهِ إِلَّا لِمَا فِي هَذِهِ الْبِدْعَةِ مِنْ مُوَافَقَةِ هَوَاهُ.
وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ بِبِدْعَتِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَوِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ؛ وَلَمْ يَرْضَ بِمَا حَدَّهُ الشَّارِعُ وَقَدَّرَهُ؛ فَلْيَعْلَمْ أَّنَّ قَدَمَهُ قَدْ زَلَّتْ عَنِ الْهَدِيِّ, وَرَضَتْ بِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ, قَالَ رَجُلٌ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللهُ: مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ قَالَ: مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ الرَّجُلُ: فَإِنْ أَحْرَمْتَ مِنْ أَبْعَدَ مِنْهُ؟ قَالَ مَالِكٌ: فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ, قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي ازْدِيَادِ الْخَيْرِ؟ قَالَ مَالِكٌ: فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّكَ خُصِصْتَ بِفَضْلٍ لَمْ يُخَصَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!

*فَأَخْرَجَ الدَارِمِيُّ أَنَّ أَبا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ, إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفًا أَمْرًا أَنْكَرْتُهُ, وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَّا خَيْرًا, قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ, قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْمًا حِلَقًا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ, فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ, وَفِي أَيْدِيهِمْ حَصًى, فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً, فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً, فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً, فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً, وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً, فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً, قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئًا, انْتِظَارَ رَأْيِكَ, وَانْتِظَارَ أَمْرِكَ, قَالَ: أَفَلَا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ, وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ, ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ, حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ, فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ, فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ, حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ, قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ, فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ, وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ! هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ, وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ, وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ, وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ, أَوْ مُفْتَتِحُو بَابِ ضَلَالَةٍ, قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ, مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ, قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ, إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثنا: (أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) وَايْمُ اللَّهِ, مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ, ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ, فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *