اغتنموا أيام المهل

* فَإِنَّ الشُّهُورَ, وَالْأَعْوَامَ، وَاللَّيَالِي, وَالْأَيَّامَ, مَوَاقِيتُ الْأَعْمَالِ, وَمَقَادِيرُ الْآجَالِ، تَنْقَضِي جَمِيعًا, وَتَمْضِي سَرِيعًا، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَتَعَاقَبَانِ لَا يَفْتُرَانِ، وَالسَّعِيدُ لَا يَركَنُ إِلَى الْخُدَع، وَلَا يَغْتَرُّ بِالطَّمَع، فَكَمْ مِنْ مِسْتَقْبِلِ يَوْمًا لَا يَسْتَكْمِلُهُ، وَكَمْ مِنْ مؤَمِّلٍ, لِغَدٍ لَا يُدْرِكُهُ, فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا وَمَكَائِدَهَا، فَكَمْ غَرَّتْ مِنْ مُخْلِدٍ إِلَيْهَا، وَصَرَعَتْ مِنْ مُكِبٍّ عَلَيْهَا، فَفِي الْبُخَارِيِّ, عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِمَنْكِبِي, فَقَالَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ, أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) وَكَانَ ابْن عُمَرَ, يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ, فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ, فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ, لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ, لِمَوْتِكَ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: احْتَطِبُوا زَادًا لِآخِرَتِكُمْ كَافِيًا، وَأَعِدُّوا لِلسُّؤَالِ جَوَابًا شَافِيًا، وَاسْتَكْثِرُوا فِي أَعْمَارِكُمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ، وَتَدَارَكُوا مَا مَضَى مِنَ الْهَفَوَاتِ، وَبَادِرُوا مُهْلَةَ الْأَوْقَاتِ، قَبْلَ أَنْ يُنَادِي بِكُمْ مُنَادِي الشَّتَاتِ، وَيَفْجَأُكُمْ هَادِمُ اللَّذَّاتِ، فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَعِظُ رَجُلًا, وَيَقُولُ لَهُ: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكّ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغلِك) أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ, فَمُعْتِقُهَا, أَوْ مُوبِقُهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: كُلُّ إِنْسَانٍ يَسْعَى بِنَفْسِهِ, فَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُهَا لِلهِ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ, فَيُعْتقُهَا مِنَ الْعَذَابِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُهَا لِلشَّيْطَانِ, وَالْهَوَى, بِاتِّبَاعِهِمَا, فَيُوبِقُهَا, أَيْ يُهْلِكُهَا.
فَيَا مَنْ أَقْعَدَهُ الْحِرْمَانُ، وَيَا مَنْ أَرْكَسَهُ الْعِصْيَانُ، كَمْ ضَيّعَتْ مِنْ أَعْوَامٍ، وَقَضَيْتَهَا فِي اللَّهْوِ, وَالْمَنَامِ، كَمْ أَغْلَقَتَ بَابًا عَلَى قَبِيحٍ، وَكَمْ أَعْرَضْتَ عَنْ قَوْلِ النَّصِيحِ، أَنَسِيتَ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ سَاعَةَ الْاحْتِضَارِ؟! حِينَ يَثْقُلُ مِنْكَ اللِّسَانُ، وَتَرْتَخِي الْيَدَانُ، وَتَشْخُصُ الْعَيْنَانُ.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: كَمْ مِنْ عَزِيزٍ دَفَنّاهُ, وَانْصَرَفْنَا، وَكَمْ مِنْ قَرِيبٍ أَضْجَعْنَاهُ فِي اللَّحْدِ, وَمَا وَقَفْنَا، فَهَلْ رَحِمَ الْمَوْتُ مِنَّا مَرِيضًا لِضَعْفِ حَالِهِ؟! وَهَلْ أَمْهَلَ الْمَوْتُ مِنَّا ذَا عِيَالٍ مِنْ أَجْلِ عِيَالِهِ؟! أَيْنَ مَنْ كَانُوا مَعَنَا؟! أَتَاهُمْ هَادِمُ اللَّذَّاتِ، وَمُفَرِّقُ الْجَمَاعَاتِ، فَأَخْلَى مِنْهُمُ الْمَجَالِسَ, وَالْمَسَاجِدَ، فَتَرَاهُمْ فِي بُطُونِ الْأَلْحَادِ صَرْعَى، لَا يَجدُونَ لِمَا هُمْ فِيهِ دَفْعًا، وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا, وَلَا نَفْعًا.
فَيَا مَنْ تَمُرُّ عَلَيْهِ سَنَةٌ بَعْدَ سَنَةٍ، وَهُوَ فِي نَوْمِ الْغَفْلَةِ، إِلَى أَيِّ يَوْمٍ أَخَّرْتَ تَوْبَتَكَ؟! وَلِأَيِّ عَامٍ ادْخَرْتَ أَوْبَتَك؟! وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أَي الْأَنْفَاسُ.
فَبَادِرْ يَا أَخَا الْإِسْلَامِ التَّوْبَةَ, وَاحْذَرِ التَّسْوِيفَ وَالْغَفْلَةَ، وَأَصْلِحْ مِنْ قَلْبِكَ مَا فَسَدَ، وَفِرَّ مِنْ أَصْحَابِ السُّوءِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ، فَقَدْ أَزِفَ الرَّحِيلُ, وَقَرُبَ التَّحْوِيلُ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ, حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ, فِيمَ أَفنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ, فِيمَ أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ, مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ, وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْتَمِلَ الْهَدْمُ عَلَى الْبِنَاءِ، وَالْكَدَرُ عَلَى الصَّفَاءِ، وَقَبْلَ أَنْ تَخْلُو الْمَنَازِلُ مِنْ أَرْبَابِهَا، وَتُؤْذَنُ الدِّيَارُ بِخَرَابِهَا، وَاغْتَنِمُوا السَّاعَاتِ, وَالْأَيَّامِ, وَالْأَعْوَامِ، وَلْيُحَاسِبْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ نَفْسَهُ، فَقَدْ سَعُدَ مَنْ لَاحَظَهَا, وَحَاسَبَهَا، وَفَازَ مَنْ تَابَعَهَا, وَعَاتَبَهَا, وَهَلِمُّوا إِلَى دَارٍ, لَا يَمُوتُ سُكَّانُهَا، وَلَا يَخْرَبُ بُنْيَانُهَا، وَلَا يَهْرَمُ شَبَابُهَا، وَلَا يَتَغَيَّرُ حُسْنُهَا.
فَيَا عَبْدَ اللهِ: اسْتَدْرِكْ مِنَ الْعُمْرِ ذَاهِبًا، وَقِفْ عَلَى الْبَابِ تَائِبًا، بِلِسَانٍ ذَاكِرٍ، وَدَمْعٍ قَاطِرٍ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ, قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ, لِيَتَوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ, لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) فَأَحْسِنْ يَا عَبْدَ اللهِ فِيمَا قَدْ بَقِي، يُغْفَرْ لَكَ مَا قَدْ مَضَى، فَإِنْ أَسَأْتَ فِيمَا بَقِيَ، أُخِذْتَ بِمَا مَضَى, وَبِمَا بَقِي.

*فَإِنَّ الْأَيْامَ تُطْوَى، وَالْأَعْمَارَ تَفْنَى، وَالْأَبْدَانَ تَبْلَى، وَالسَّعِيدُ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ, وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَالشَّقِيُّ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ, وَسَاءَ عَمَلُهُ، فَفِي التِّرْمِذِيِّ, أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (مَنْ طَالَ عُمْرُهُ, وَحَسُنَ عَمَلُهُ) قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌ؟ قَالَ: (مَنْ طَالَ عُمْرُهُ, وَسَاءَ عَمَلُهُ) فَكُونُوا مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ, وَلَا عَمَلٌ، وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَالْمَرْءُ يَمُوتُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *