دين الرحمة

*فَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي سِيرَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَهَا مَلْأَى بِكَرِيمِ الصِّفَاتِ, وَجَمِيلِ الْأَخْلَاقِ, فَفِي الصَّحِيحَيْنِ, عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَا لَيْلِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي, فَإِذَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي, فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ, وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ, وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ, وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبِينِ) فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) وَلَمَّا ضَيَّقَ عَلَيْهِ أَهْلُ مَكَّةَ الْخِنَاقَ, وَآذَوْهُ, وَعَذَّبُوا أَصْحَابَهُ، وَحَاوَلُوا قَتْلَهُ، وَقتَلُوا أَصْحَابَهُ فِي أُحُدٍ، وَأَدْمَوا وَجْهَهُ الشَّرِيفَ، كَانَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ, وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ, وَالشَّفَقَةِ بُعِثَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِهَذَا الْعَطْفِ, وَالرَّأْفَةِ, عَامَلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُومَهُ وَأَعْدَاءَهُ, كَمَا عَامَلَ بِالرَّحْمَةِ أَصْحَابَهُ (وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ) وَمَا خُيِّرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، وَكَانَ يَقُولُ أَحْيَانًا: (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمْرْتُهُمْ بِكَذَا أَوْ لَفَعَلْتُ كَذَا) وَلَقَدْ كَانَ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ يُرِيدُ إِطَالَتَهَا, فيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَيَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِهِ مِمَّا يَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ, عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ, وَتُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنًا لَهَا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: (ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ, وَلَتَحْتَسِبْ) فَعَادَ الرَّسُولُ, فَقَالَ: إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ, أَيْ تَضْطَرِبُ كَحَشْرَجَةِ الْمَاءِ فِي قِرْبَةٍ بَالِيَةٍ, فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) وَفِي أَبِي دَاوُدَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تُفَرِّشُ, أَيْ تَفْرُشُ جَنَاحَيْهَا فَتَقْتَرِبُ مِنَ الْأَرْضِ وَتُرَفْرِفُ, فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا).
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ: هَذَا هُوَ دِينُكُمْ, دِينُ الرَّحْمَةِ وَالتَّرَاحُمْ, فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ، مَعَ الْأَصْدِقَاءِ وَالْأَعْدَاءِ، وَمَعَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ, رَحْمَةٌ فِي الْعِبَادَةِ, وَالتَّعَامُلِ, وَالْحُكْمِ، وَفِي كُلِّ تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ.
أَلَا وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَعَانِي الرَّحْمَةِ بِالْبَشَرِيَّةِ: رَدْعُ الْكُفَّارِ, وَالْمُنَافِقِينَ, وَالضُّلَّالِ, وَأَهْلِ الْفَسَادِ, وَكَفُّ أَذَاهُمْ عَنِ التَّسَلُّطِ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ, وَنَشْرِ الرَّذَائِلِ, وَالْفَسَادِ بَيْنَهُمْ, لِكَيْ لَا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ, وَلِكَيْ يُنْشَرَ الْعَدْلُ بَيْنَ النَّاسِ, وَاعْلَمُوا أَنَّ رَحْمَةَ الْخَلْقِ, جَالِبَةٌ لِرَحْمَةِ اللهِ لِلْعَبْدِ, فَفِي الْمُسْنَدِ: (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ, يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ, وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِى قُرْبَى وَمُسْلِمٍ, وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ).

*فَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ الرَّحْمَةَ هِيَ توَاضُعُ النَّفْسِ, وَكَسْرُ الْكِبْرِيَاءِ, وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ, وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ, وَمُوَاسَاةُ الْمُحْتَاجِينَ, وَصِلُةُ الْأَرْحَامِ, وَالْعَطْفُ عَلَى الضُّعَفَاءِ, وَالْمَرْضَى, وَالْيَتَامَى, وَالْمَحْرُومِينَ, وَذَلِكَ بِمُسَاعَدَتِهِمْ, وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى قُلُوبِهِمْ, وَالرَّحْمَةُ كَذَلِكَ مُقْتَضَاهَا نُصْرَةُ الْمَظْلُومِ, وَرَدْعُ الظَّالِمِ, وَالْأَخْذُ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ, وَالْاهْتِمَامُ بِشُؤُونِ الْمُسْلِمِينَ, وَمُعَايَشَةُ قَضَايَاهُمْ, وَمُشَارَكَتُهُمْ آلَامَهُمْ وَآمَالَهُمْ, وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ, وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ, وَدَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ, وَغَيْرِهِمْ إِلَى صِرَاط اللهِ الْمُسْتَقِيمِ, وَتَعْلِيمُهُمْ أُمُورَ دِينِهِمْ, فَذَلِكَ هُوَ غَايَةُ الرَّحْمَةِ بِالْخَلْقِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ, قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُم, كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا، وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي) وَالْحُجُزُ هِيَ: مَعَاقِدُ الْأُزُرِ وَالسَّرَاوِيلِ.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *